وضع داكن
30-05-2025
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 024 - الوجد
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

منزلة الوجد:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الرابع والعشرين من دروس مدارج السالكين في منازل إيّاكَ نعبدُ وإيّاكَ نستعين، ومنزلة اليوم هي منزلة الوجد.
أيها الإخوة الأكارم؛ في الدين فضلاً عن عقيدتهِ، وعن عباداتهِ، وعن معاملاتهِ، وعن تنفيذ أوامرهِ، وعن اجتناب نواهيه، في الدين الحقيقي مشاعر، مشاعر يتذوقها المؤمن، هذه المشاعر لها شأنٌ كبير في مسيرتهِ إلى الله عزّ وجل، أي إذا بقي الدين معلومات، أفكاراً، قناعات، فلسفات، علم كلام، قيل وقال، الإنسان ينصرفُ عنهُ، وإذا بقي الدين أعمالاً مُجهِدة الإنسان يتعب، في الدين شيء أُسميه الآن وجد بحسب موضوع الدرس، أو مشاعر، هذه المشاعر تغمرُ القلب، ربما كانت هذه المشاعر المُسعِدة التي تغمُر القلب دافعاً حثيثاً لمتابعة الطريق، هذه المشاعر ثابتةٌ في قول النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيحين من حديثِ أنسِ ابن مالك رضيَّ الله عنه،

(( عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهُ قال: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ   عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ، أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ». ))

[ صحيح البخاري ]

الإيمان لهُ حلاوة، الإيمان فيه أذواق، فيه مشاعر مُسعدةَ، فيه أحاسيس طيبة، لكن أُفضّل كلمة مشاعر، لأنَّ الأحاسيس يغلبُ عليها الطابعُ الحسيّ المادي، والمشاعر يغلبُ عليها الطابعُ النفسي، مثلاً قبلَ أن نمضي في الحديث عن هذا الموضوع، لما الإنسان يتاجر ويشتري بضاعة بسعر، ويبيعها بسعر جيد، ويحقق رِبحاً يقبِضهُ نقداً خلال ساعة أو ساعات، يشعر بسرور، تجدهُ يتكلّم بمرح، عيونهُ تلمع، وجنتهُ تتورد، يميل إلى المزاح، يحاول أن يستلطف الآخرين، هذه كُلها علامة الفرح، لأنهُ فَرِحَ بِربحِ هذه الصفقة، لو أنهُ درسَ دراسةً عُليا، وأمضى سنةً بجهدٍ شاق، ثُمَّ قدّمَ امتحاناً، وبعدَ شهرٍ قرأَ اسمهُ في لوحة الإعلانات، وقد نالَ هذه الشهادة العُليا بتقدير امتياز، تجدهُ خلال أسبوع في أعلى درجات سعادتهِ، يشعر بسعادة حقيقية.
لو أنَّ إنساناً سافر إلى مكان جميل، وليسَ في قلبهِ هموم، ويملكُ المالَ الكافي، مستمتعاً بالمناظر الجميلة، وبأهلهِ وأولادهِ، والأمور كُلُها منتظمة، يشعر بسعادة، هذه السعادة كُلُّها مؤقتة، لكن إذا اتّصلَ بالله عزّ وجل من خِلال استقامتهِ على أمر الله، من خلال أعمالهِ الطيبة، يشعر، يذوقُ طعمَ الإيمان، يذوق حلاوة الإيمان، يقول لكَ: ليسَ في الأرض من هوَ أسعدُ منّي، هذا فضلاً عن عقيدتهِ الصحيحة، فضلاً عن طاعتهِ لله، فضلاً عما ينتظره من نعيمٍ مُقيم، فضلاً عن تنفيذهِ أوامِرَ الله، فضلاً عن تَخلُّقهِ بأخلاقِ رسول الله، فضلاً عن كُلِّ ذلك في الدين مشاعر مُسعِدة، هذه المشاعر المُسعِدة بمثابة المُحرك في طريق الإيمان، فإذا ضَعُفت هذه المشاعر أو تلاشت أصبحَ الدينُ ثقافةً، معلومات، أفكاراً، مناقشات، قيل وقال، عِلم كلام، كُتباً، مقالات، تأليفاً، مراجع، مصادر، فهارس، انقلبَ الدين إلى معلومات، والمعلومات الإنسان أحياناً يملُّها، أو يسأمُ منها، أو ينصرفُ عنها، وإذا بقي يعملُ الأعمال الصالحة، ويخدمُ الآخرين، ويعطفُ على المساكين والفقراء، ويغيثُ الملهوفين من دون أن يكونَ لهُ اتصالٌ بربِّ العالمين، حتى الأعمال الصالحة تُملّ، يقول لكَ: يا أخي مللتُ حياتي، الناس لا يعطون وجهاً، ما الذي يجعَلَكَ تُغِذّ السير في طريق الإيمان؟ أن تذوقَ طعمَ الإيمان، هذه المشاعر المُسعِدة التي تغمر قلبَ المؤمن، إنها موضوع هذا الدرس، مرتبةُ الوجد، قالَ بعضُ الشُعراء: 

هل الوجدُ إلا أنَّ قلبي لو دنا                من الجمرِ قيدَ الرمحِ لاحترقَ الجمرُ

[ قيس بن الملوح ]

* * *

أي قلبهُ متأجج، أحياناً تجلس مع إنسان منطفئ، يملُّ كُلَّ شيء، ويُمَلُّ الجلوسَ معهُ، قلب فارغ من أي شعور إنساني، أحياناً تجلس مع إنسان يُعطيكَ من تأججهِ الشيء الكثير.
 

محبة الله ورسوله هما الدافع إلى طريق الإيمان:


درسنا اليوم هذا الباعث النفسي، هذا التأجج القلبي، هذه السعادة القلبية، هذا الحال إن صحَّ التعبير الذي يُسعِدُ الإنسان ويدفعُه قُدُماً في طريق الإيمان، هذا الكلام أله أصلٌ في السنّةِ الثابتة؟ وردَ في الصحيحين من حديثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: ((ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا)) أي الليرة والمليون تحت قدمه إذا كان الله يُرضيه أن يُقدّمَ هذا المبلغ، يُقدّمُ مالهُ، يُقدّمُ روحهُ، يُقدّمُ وقته، لا يرضى من زوجتهُ أن تعصي الله ولو أدبرت عنهُ، ولو توتّرَ الجو بينهما، هذا الذي اللهُ ورسولهُ أحبُّ إليه مما سِواهما يذوقُ طعمَ الإيمان، أما كُلّما وقعتَ في صِراع آثرتَ جانبَ الدنيا، أخي هذه فيها فتوى، والعلماء أجازوها، والناس هذا بلاء عام يا أخي، كلما وقع بصراع بين ما يُرضي الله وبينَ ما يُحققُ مصالِحُه مالَ إلى جانبِ مصالحهِ، إذاً آثرَ الدنيا على الله ورسوله، آثرَ رِضاء زوجتهِ على الله ورسوله، آثرَ رِضاء شريكهِ على الله ورسوله، آثرَ تحقيقَ أرباحٍ فيها شُبُهات على اللهِ ورسوله، حيثُما تُؤثِرُ شيئاً من الدنيا على الله ورسوله لا تذوقُ طعمَ الإيمان، يُصبِحُ القلبُ متصحّراً، جافاً، جلموداً، صخريّاً، إذا شخص جلس معك لا يوجد عنده شيء، لا يحس بشيء، لا يحس بسعادة إذا جلس معك، لأن أولياء الله عزّ وجل كما قال عليه الصلاة والسلام:

(( عن عبد الله بن عباس: أولياءُ أُمتي إذا رُؤُوا ذُكِرَ الله بهم. ))

[ السلسلة الصحيحة: مرسل له شواهد ]

لو رأيتَ مؤمناً ذاقَ طعمَ الإيمان، بمجردِ أن تقعَ عينكَ عليه تذكرُ الله عزّ وجل، تتمنى أن تتوب، تتمنى أن تُصلي، تتمنى أن تعمل الصالحات، ((أولياءُ أُمتي إذا رُؤُوا، ذُكِرَ الله بهم)) .
 

من أحبّ أخاهَ المؤمن لوجه الله تعالى من دونِ مصالح ذاق طعمَ الإيمان:


((ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)) أي تنشأ في مجتمع المؤمنين علاقات عجيبة جداً؛ لا قرابة، ولا نسب، ولا مصلحة، ولا جِوار، ولا زمالة في العمل، ولا آمال، ولا مُصاهرة، ولا شيء، تجدُ أنكَ تُحبُّ أخاكَ في الله حُبّاً لا يوصف، لو جلستَ معهُ ساعاتٍ طويلة تشعر هل من مزيد، إذا أحببتَ أخاكَ المؤمن من دون أن تكون هُناك مصلحة، علاقة، نسب، مُصاهرة، زمالة، جِوار، مشروع مستقبلي، أبداً، لا تبتغي منهُ جزاءً ولا شكوراً، لا تُحبهُ إلا لله، إذا أحببتَ أخاكَ المؤمن لوجه الله تعالى من دونِ مصالح ذُقتَ طعمَ الإيمان، هذه علامة ثانية. 

من آمن إيماناً حقيقياً ذاق طعم الإيمان:


قال: ((وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ)) هذا الذي آمن واستقام على أمر الله إذا نَدِمَ على توبتهِ يقول لكَ: والله رفاقي مسرورون، وأنا ذهبت والتحقت بهذا الجامع، وأصبحت مُقيّداً، وإذا قصّرت يحاسبونني، وإذا ذهبت إلى المكان الفلاني يؤاخذونني، يا ليتني لم، هذا الذي نَدِمَ على أنهُ آمن، أو يتمنى أن يعودَ كما كان، هذا ما ذاق طعَم الإيمان، من علامة الإيمان، أي إنسان كان ساكناً فرضاً في بيت قميء، مُظلم، فيه رطوبة، بحيّ مزدحم، أي مُشكلات لا تُعد ولا تُحصى، نُقِلَ إلى بيتٍ فخم، واسعٍ، مشمسٍ، في حيٍّ راقٍ، هل يتمنى أن يعود لهذا البيت؟ مستحيل، مستحيل، شخص كان يعمل في وظيفة متواضعة، دوامها طويل، ويوجد حوله ضغط شديد، وهناك شيء من الإذلال، ودخلهُ لا يكفيهِ ثلاثة أيام، اشتغل بالتجارة، ربح أرباحاً طيبة، أصبحَ سيد نفسهُ، دوامهُ بيدهُ، يتمنى أن يعود كما كان موظفاً؟ يكون مجنوناً طبعاً، أنا أقول أمثلة. 
فإذا الإنسان آمن إيماناً حقيقياً، واتصل بالله اتصالاً حقيقياً، وذاق طعمَ الإيمان، وشعرَ كيفَ كان، في أيِّ الوحول كان، كان بوحول، كان مع القاذورات، كان مع أشخاص كتلاً من النجاسات، في مِزاحهم، في علاقاتهم، في سفرهم، في شراكتهم، في مُرافقتهم، مُزاح على أنانية، على دناءة، على حقارة، على حبِّ الذات، على استعلاء، على مُزاح غليظ، فصاحبَ أُناساً طيبين طاهرين، أخلاقهم عالية، يتمنى أن يعودَ لهؤلاء المجرمين؟ هذه أمثلة من واقع الحياة فلذلك: ((وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ)) فمن أحبّ الله ورسوله، ((أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ)) هذا الإنسان ذاقَ طعمَ الإيمان، والأصح ذاقَ حلاوة الإيمان، الإيمان لهُ حلاوة.
 

حقيقة حلاوة الإيمان:


 آيةٌ ثانية تؤكِّدُ هذه المنزلة: 

﴿ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)﴾

[ سورة الكهف ]

هُنا يوجد سؤال دقيق، سيدنا جعفر مثلاً ما الذي دعاهُ حينما جاءَ سيفٌ فقطعَ يمينهُ وأصبحت يدهُ على الأرض، لماذا لم يترك فرسهُ فجأةً ويقول: يدي؟ وا أسفاه على يدي، يدي، لماذا أمسكَ الراية بيدهِ الثانية؟ جاءت ضربة سيفِ ثانية قطعت يدهُ اليُسرى، أمسكَ الرايةَ بعُضُدِيه، هنا يوجد سؤال دقيق، هو بشر من بني البشر، ما الذي جعلهُ يتحمل هذه الآلام آلام قطعِ اليد الأولى والثانية ويصبر؟ إنها حلاوة الإيمان.
سيدنا خُبيب حينما أرادوا أن يصلبوه، فطلبَ أن يُصلي ركعتين قبلَ أن يُصْلب، وقد هُيئَ الجدار، وهُيئت السهام ليُصلبَ على جِذعِ نخلة، ويُلقى بالسهام حتى يموت، قيل لهُ: أتحبُّ أن يكونَ محمدٌ مكانك وأنتَ في أهلك؟ والله شيء غريب، والله الإنسان يبيع أهلهُ في هذه الحالة، يبيع دينهُ، يبيع إيمانه، يقول لك: ما معها مزاح، سلامتك يا رأسي، هكذا الناس، ما الذي جعلَ هذا الصحابي الجليل ينتفضُ ويقول: واللهِ ما أُحبُّ أن أكون في أهلي وولدي، جالس في بيتهُ، زوجتهُ أمامه، أولادهُ أمامهُ، أكل طيب، في الشتاء البيت دافئ، تدفئة مركزية، بالصيف تكييف، الورود على الطاولة، ألوان الطعام والشراب، كلّ أجهزة اللهو موجودة، قالَ: واللهِ ما أحبُّ أن أكونَ في أهلي وولدي وعِندي عافيةُ الدنيا ونعيمُها ويُصابُ رسول الله بشوكة؟ انظر، ما الذي جعلهَ يتقدم أن يموت عن أن يكفر بمحمد؟ يموت صلباً، السهام تنوشهُ.
هذه المرأة التي فقدت زوجها وأباها وابنها وأخاها، أي لا يمضي ألف سنة حتى تُصاب امرأة بوقت واحد بزوجها، وبابنها، وبأخيها، وبأبيها، وقد عَلِمت بموتهم جميعاً في معركة أُحد، تقول: ما فعلَ رسول الله؟! تُريد أن تسألَ عن رسول اللهِ فقط، ماذا في قلبِها؟ لو لم يكن في قلبِها حلاوة الإيمان لما فعلت هذا.
أي ظهر من الصحابة أفعال العقل لا يُصدقُها، لولا ما ذاقوه من حلاوة الإيمان، أنا مرة سألت طبيب قلب، قُلت له: صِفْ لي بعضَ حالات الوفاة التي يعانيها بعض المرضى، أي مريض بالقلب، جاءتهُ الوفاة، والله ذكرَ لي قصصاً غريبة، قال لي: بعض الناس يضرب نفسه، وبعضهم يصفرُّ وجهه، على كل يا أولادي! يا أهلي! ذكرتُ لهُ قصة سيدنا ربيعة، النبي الكريم تفقّدهُ، ما وجده، قال: ابحثوا لي عنهُ، ذهب صحابي إلى أرض المعركة رآهُ بينَ القتلى، لكنهُ يتنفس، قال لهُ: يا ربيعة، أمرني النبي أن أسألَ عنك هل أنتَ بينَ الأحياء أم بينَ الأموات؟ قالَ لهُ: أنا بينَ الأموات، أي أنا منته، دقائق، قال لهُ: بلّغ رسولَ الله مني السلام، وقُل له: جزاكَ اللهُ عنّا خيرَ ما جزى نبياً عن أُمته، وقُل لأصحابِهِ: لا عُذرَ لكم إذا خُلِصَ إلى نبيّكم وفيكم عينٌ تطرُف، في أيّةِ سعادةٍ هذا الإنسان؟ في أيّةِ سعادة وهو يُفارق الدنيا؟ أنا أقول لكم الآن كلمة ذاقَ حلاوة الإيمان، إذا ذُقتَ حلاوة الإيمان واللهِ الذي لا إلهَ إلا هو يستوي عِندكَ التِّبرُ بالتُّراب، الذهب مثلُ التُّراب، سحرة فرعون لمّا ذاقوا حلاوة الإيمان: 

﴿ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)﴾

[ سورة طه ]

أي يدك وما تعطي، قال تعالى:

﴿ إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)﴾

[ سورة طه ]

بماذا شعرَ هؤلاء؟ الملكة بلقيس حينما تخلّت عن مُلكِها دفعةً واحدة: 

﴿ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)﴾

[ سورة النمل ]

الإنسان سهل أن يتخلى عن مُلكهِ بلحظة؟ ماذا شعرت؟ هذه حلاوة الإيمان،

(( عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قال: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ؛ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولا. ))

[ صحيح مسلم ]

سيدنا الصدّيق أعطى كل مالهُ لرسول الله، قالَ: يا أبا بكر! ماذا أبقيتَ لك؟ قالَ: اللهَ ورسولهُ.
سيدنا أبو يحيى وهو في الهجرة تَبِعهُ كُفارُ قريش، وألقوا القبضَ عليه ليعيدوه إلى مكة، قالَ: إذا أعطيتكم كُلَّ مالي أتتركوني؟ قالوا: وأينَ مالُك؟ قالَ: في مكة، في المكان الفلاني، خذوه ودعوني، فخلّوا عن سبيلهِ، وانطلق إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وحدّثَ النبيَّ بما حصل، قالَ: رَبِحَ البيعُ أبا يحيى، رَبِحَ البيعُ أبا يحيى.
أي أنا أقول لكم: الذي يجعل المؤمن يُضحّي، المال تحت قدمهُ، الدنيا كُلها إذا تعارضت معَ دينهِ لفظها ورفضها، هو حلاوة الإيمان، إذا ذاقَ حلاوة الإيمان، والله أما إذا ما ذاقَ حلاوة الإيمان لا يُضحّي بشيء، يجد لكل معاصيه فتوى، يدبرها، إذا لم يذق حلاوة الإيمان مع مصالحهُ، مع الدنيا، مع شهواتها، مع رغباتها، يحتاج إلى دين تفصيل على قده، يريد ديناً على كيفه، يُصلي الصلاة لا تُكلّف، يُصلي ويصوم ويحج ويُزكي، لكن يريد مصالحه، يريد شهواتهُ، تجاراته، حركاتهُ، سكناتهُ، فإذا الإنسان ما ذاقَ حلاوة الإيمان لن يستقيم على أمر الله، هذا الكلام: ﴿وربطنا على قلوبهم﴾ أي ألقينا في قلوبهم من حلاوة الإيمان، ومن مواجد أهلِ الحُب، ألقينا في قلوبهم معاني القُرب، ألقينا في قلوبِهم أنوار الحق، ألقينا في قلوبهم تجليات، ألقينا في قلوبهم السكينة، حتى ظهرت منهم هذه الأعمال البطولية، شيء لا يُوصف، لو قرأتم تاريخَ أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجدتم أنهم بشر ولكن ليسوا كالبشر، لا لشيء، إلا لأنَّ الله عزّ وجل ألقى في قلوبهم محبته، ألقى في قلوبهم حلاوة الإيمان، ألقى في قلوبهم أنوارهُ، ألقى في قلوبهم تجلياتهُ، ألقى في قلوبهم سكينتهُ، قال: ﴿وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربُنا ربُّ السموات والأرض لن ندعوَ من دونهِ إلهاً لقد قُلنا إذاً شططاً﴾ أهلُ الكهف كانوا يعيشون في ظِلِّ سُلطانٍ كافر، وكانوا في بحبوحةٍ، وفي حياةٍ وادعة، ناعمةٍ إلى أقصى الحدود، تركوا حياة البذخ والترف والنعيم والشهوات، ولجؤوا إلى كهفٍ خَشِنٍ مظلِمٍ مُخيفٍ، لكنَ الله عزّ وجل ألقى في قلوبهم حلاوة الإيمان، لذلك هذا ما قالهُ بعض العارفين بالله: لو يعلمُ الملوكُ ما نحنُ عليه لقاتلونا عليه بالسيوف. 
يوجد بقلب المؤمن من سكينة، من تجلّ، من أنوار، من مشاعر مُسعِدة، من شعور بالأمن، من شعور بالرِضا، من شعور بأنَّ اللهَ راضٍ عنه، الشيء الذي لا يوصف، لذلك من أجلِ هذا يتحمّلُ كلَ شيء، يصبرُ على الطاعات، يصبرُ عن الشهوات. 
مثلاً إنسان شاب أول حياتهُ، يمشي في الطريق امرأة سافرةٌ متبذلةٌ في ثيابِها، تكشِفُ عن مفاتِنها، ما الذي يجعلهُ يَغضُّ طرفهُ عنها؟ والله هيَ جميلة، وقد ركّبَ الله فيه حُبَّ النساء، ما الذي يجعلهُ يُديرُ وجههُ عنها؟ أنهُ ذاقَ حلاوة الإيمان، فلو أنهُ نظرَ إليها فقدَ حلاوة الإيمان، حلاوة الإيمان أغلى عِندهُ من النظرِ إليها.
صحابي جليل لهُ زوجة يُحبها جداً، قالت لهُ: أُريد كذا وكذا، قال لها: إنَّ في الجنة من الحورِ العين ما لو أطلّت إحداهُنَّ على الأرض لَغَلَبَ نور وجهها ضوءَ الشمسِ والقمر، فلأن أُضحي بِكِ من أجلِهن أهون من أن أُضحي بِهنَّ من أجلك.
أُم سيدنا سعد قالت لهُ: إمّا أن تكفر وإمّا أن أدعَ الطعام؟ قالَ: يا أمي! لو أنَّ لكِ مئة نفسٍ فخرجت واحدةً واحدةً ما كُنتُ لأكفُرَ بمحمد، فكُلي إن شئتِ أو لا تأكُلي، هذا درسُنا، الوجد، فإذا أردتَ أن يمتلئَ قلبُكَ بالوجد، بالحُبّ، بالمشاعر المُسعِدة، أردتَ أن تذوقَ حلاوة الإيمان، أنا أدُلُكَ على الطريق، أولاً: أطع الله عزّ وجل، طاعتُكَ للهِ وحدها تغمرُ قلبكَ بالمشاعر المُسعِدة، لو الله عزّ وجل ما ألقى على قلبِ هؤلاءِ هذه السعادة لآثروا الدنيا، ولانشغلوا بملذاتها، ولغفلوا عن ذِكرِ الله عزّ وجل، ولاتبعوا الشهوات.
 

مراتب الوجد:

 

1-التواجد:

الآن يوجد عندنا أربع مراتب للوجد؛ أول مرتبة: التواجد، هذه الصيغة فيها معنى التصنع، التباكي، التمارض، التواجد، التغابي، وزن تفاعَلَ بمعنى تصنّعَ الشيء: 

ليسَ الغبيُّ سيداً في قومهِ                   لكنَ سيدَ قومهِ المتغابي

[ أبو تمام ]

* * *

أحياناً المتغابي يكون أعلى درجة من أنواع الذكاء، يظهر للناس أنه أجدب، يكون هو ذكياً جداً، لكن الموقف يقتضي ذلك، يتغابى.
التمارض، التغابي، الآن التواجد، أي يتباكى، يدّعي أنه يبكي وهو لا يبكي، أي عملية تصنُّع الوجد، قال: هذه أول مرتبة وهي أضعفُ المراتب، اختلفَ العُلماء في هذه المرتبة، مقبولة أم مرفوضة؟ قال: إذا أرادَ بالتواجد أن يكتسبَ ثناءَ الآخرين مرفوضة، أمّا إذا أرادَ بالتواجد أن يصِلَ من خِلالها إلى حقيقة الوجد مقبولة لقول النبي الكريم:

(( عن أبي هريرة: إنَّما العلم بالتّعلُّم، والحلمُ بالتحلُّم. ))

[ شعيب الأرناؤوط: تخريج منهاج القاصدين: حكم المحدث:في سنده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف. ]

إنما الكرم بالتكرّم، أنتَ تعمل نفسكَ متأثراً، تتباكى، تُغمض عينكَ، تحاول أن تبكي، هذا التواجد، عملية تصنُّع الوجد، فإن فعلتها لانتزاع إعجاب الناس هذا نِفاق والله، وهذه المرتبة مرفوضة، أمّا إن فعلتها لعلكَ تُحصّلُ بها الوجدَ الحقيقي مقبولة.
عندنا أثر عن سيدنا عُمر يؤكدُ ذلك، سيدنا عمر رأى النبي عليه الصلاة والسلام وأبا بكر يبكيان في شأنِ أسارى بدر، وما قَبِلوا منهم من الفِداء، فقالَ عُمر رضي اللهُ عنه: أخبراني ما يُبكيكُما؟ فإن وجدتُ بُكاءً بكيت، وإلا تباكيت، هذه مرتبة مقبولة من جهة، مرفوضة من جهة، مقبولة إذا أرادَ صاحِبُها أن يصلَ من خلالها إلى الوجد الحقيقي، تأسيّاً بالنبي عليه الصلاة والسلام حينما قال: ((إنَّما العلم بالتّعلُّم، والحلمُ بالتحلُّم)) إنما الكرمُ بالتكرّم، أي أنت غضوب بالأصل، لكن النبي أمرنا بالحِلم، تدّعي انك حليم، تضبط أعصابك، وأنت من الداخل تغلي غلياناً، لكنك ضابط لأعصابك، وتصك أسنانك، وتعُضّ على يديك، لم تفعل شيئاً، هذا تحلّم، مرة على مرة الله عزّ وجل يصبِغُ عليكَ خُلُقَ الحِلم، تُصبح حليماً أصلياً، الأولى حليم تقليد، تُصبِحُ حليماً أصالةً، هكذا النبي علَمنا، إنما الحِلمُ بالتحلّم، إنما الكرمُ بالتكرُّم، زاركَ ضيف من مكان بعيد، تُعاكس نفسكَ تعمل له عشاء، لكن مرة مع مرة تُصبِحُ كريماً جواداً، إنما الكرمُ بالتكرّم. فقال: هذا التواجد تصنّعُ الوجد، إذا كان صاحِبهُ فعلهُ رياءً وسُمعةً لينتزعَ إعجابَ الناس، ليبتزَّ أموالهم، أي هذه تلبسة وزعبرة، فهذا الخُلق مرفوض، أما إذا فعلهُ ليجلبَ بهِ الوجدَ الحقيقي فهذا الخُلُق مقبول، هذه مرتبة.  

2-المواجيد:

المرتبة الثانية المواجيد، أي تقرأ القرآن تُحِسّ بسعادة، تذكُر الله عزّ وجل تُحِسّ بسعادة، تدعو الله دُعاءً صادِقاً حقيقيّاً في السجود، يا ربي احفظني، يا ربي ألهمني الخير، يا ربي سدد خُطاي، يا ربي أعنِّ على نفسي، يا ربي إني تبرأتُ من حولي وقوتي، دُعاء صادق تُحِسّ بسعادة، ذِكر حقيقي تُحسّ بسعادة، تِلاوة قرآن تُحِسّ بسعادة، قال: هذه المواجيد نتائج الأوراد والتلاوات والعبادات والطاعات، الطاعات والعبادات والأذكار والأوراد والتفكرات والأدعية، هذه كُلها تُسبب مواجيد، هذه المرتبة الثانية. 

3-الوجد:

المرتبة الثالثة الوجد، الحب، مشاعر مسعدة تعقب العبادات، تعقب الأوراد، تعقب الأذكار، تعقب تلاوة القرآن، تعقب الطاعات، هذه مواجيد، المرتبة الثالثة الوجد، قال: هوَ ثمرة أعمال القلوب، من أحبَّ لله، وأبغضَ لله، وأعطى لله، ومنعَ لله، فقد ذاقَ حلاوة الإيمان، القلب لهُ عمل، قال تعالى: 

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)﴾

[ سورة المؤمنون ]

القلب إذا انصرفَ عن الدنيا، والتفتَ إلى الله عزّ وجل، هذا العمل اسمهُ: عمل القلب، من ثِمار عملِ القلبِ الحُب، الوجد، هذا الذي قالَ عنهُ النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ، مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ)) . 

4-الوجود:

أما المرتبة الرابعة فهي الوجود، التواجد، المواجيد، الوجد، الوجود، أي أن تجدَ الله، أن تصلَ إليه، أن تعبدهُ كأنكَ تراه، أن تراهُ في كُلِّ شيء، أن تراهُ من خِلالِ كُلِّ شيء، أن تراهُ فوقَ كُلِّ شيء، أن ترى يدهُ فوق يدِ كُلِّ مخلوق: 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)﴾

[ سورة الفتح ]

أن تراهُ معكَ حيثُما ذهبت، حيثُما توجهت وصلت إلى الله، هذه نهاية طريق الإيمان، هذه نهاية المطاف، التواجد تصنُّع الوجد، المواجيد مشاعر مُسعِدة تعقِبُ الأوراد والأذكار والطاعات وتِلاوة القرآن، الوجد ما يشعر بهِ قلبُكَ من حُبٍّ للهِ عزّ وجل، هذا الوجد من ثمرةِ أعمال القلوب، أما الوجود أن تجدَ الله، كيفَ أرخميدس حينما وضعَ يدهُ في حوض الماء فشعرَ بقوةٍ تدفعُها نحوَ الأعلى، فخرجَ من الحمام يقول: وجدُتها وجدُتها، فلذلك الإنسان يمضي عليه ثلاثون عاماً، عشرون عاماً، عشرة أعوام، دروس عِلم، مجالس عِلم، بذل، تضحية، دفع أموال، صدقات، خِدمة الناس، خِدمة أهل الحق، مع تِلاوة قرآن، طلب عِلم، يقول لكَ: تعبان، لم أرتح يوماً، إذا في نهاية المطاف وصلَ إلى الله وصلَ إلى كُلِّ شيء، إذا في نهاية المطاف وجدَ الله وجدَ كُلَّ شيء، يا ربي ماذا وجدَ من فقدك؟ وماذا فقدَ من وجدكَ؟
هذه أعلى مرتبة في مرتبة الوجد، الوجود، أن تجدَ الله، أي أن تراهُ في كُلِّ شيء، أن تشعُر بأنكَ قريبٌ منهُ، وأنهُ قريبٌ منك، أن تشعر بوجودهِ في كُلِّ قِصةٍ تسمعُها تراه هو الفعّال، هو الحكيم، أعطى هذا، منعَ هذا، رفعَ هذا، خفضَ هذا، أعزَّ هذا، أذلَّ هذا، أكرمَ هذا، منعَ هذا، ترى يدَ الله تعملُ في الخفاء، قال تعالى:

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾

[ سورة هود ]

تفهم الأمور كلها فهماً آخر، تفهم كُل شيء تسمعهُ فهماً من خِلالِ رؤيتِكَ لعظمة الله عزّ وجل، هذه عقيم، هذه جاءت بأولاد ذكور، هذه بأولاد إناث، هذا زوج سعيد بزوجتهِ، هناك سبب، الله عادل، هُناك أعمال تُبرر لهُ هذه السعادة.
 

كيف نصل الى مرتبة الوجد؟


الآن يوجد عندنا سؤال كبير جداً، كيفَ نصِلُ إلى مرتبة الوجد؟ العُلماء قالوا: هُناك ثلاثة منافذ للوجد: السمع، والبصر، والفِكر. 

1-عن طريق السمع:

﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)﴾

[ سورة الإسراء ]

أي إذا سمعت الحق في مجلس عِلم، أنتَ بشر ولكَ فِطرةَ عالية، سمعت شيئاً عن كرم الله عزّ وجل، شيئاً عن عظمة الله، منذُ يومين كُنتُ في عقد قِران، تكلّمتُ نقطة من نقاط عِلم الفلك، شعرت صار هناك هزّة، لا إله إلا الله، معقول هذا!! شعرت كأنني أحدثت صدمة، فإذا شخص استمع أي أصغى للحق، هذا الدرس لم يشعر بشيء، يمكن في الدرس الثاني تأتيه هزة.
الإنسان يقول لك: التاجر له نظرة، يُتاجر ثلاثين عاماً، يشتري صفقة واحدة يربح مِنها إلى ولد ولده، وأيضاً المؤمن ساعة من ساعات نفحات الله عزّ وجل، لا يعرف بالدرس أوله، بآخرهِ، بنصفه، درسان ثلاثة ولم يشعر بشيء، قد يأتي بدرس يصل الحديث إلى شِغاف قلبهِ، والمُتكلّم أحياناً يضع يده على جُرحِك، يُعطيكَ الحل، تشعر تقول: نعم والله، لا إله إلا الله، وتكون التوبة النصوح، ويكون الصُّلحُ معَ الله عزّ وجل، لا تعرف، فالسماع طريق؛ اسمع، احضر مجالِسَ العِلم، استمع للدروس، يجوز بدرس من الدروس تتألق، كأن هناك قِوى كامنة في هذا الدرس تفجرّت، هناك مشاعر جاشت، هناك مطامح تحققت.
كما قُلتُ لكم مرة: أحد العارفين، أظنهُ ذو النون المصري، حدثتُكم عن هذا في خُطبة الجمعة الأسبوع الماضي، هذا رجل يقول لكَ: أنا في حيرة، قُلتُ: أينَ قلبي؟ أي يوجد شعور بالضيق، رأى امرأة تفتحُ الباب، وتُلقي ابنها خارِجَ البيت، وهو يبكي، ضربتهُ، وألقتهُ خارِجَ البيت، وأغلقت الباب، هذا الطفل تلفّت يميناً وشِمالاً، فصارَ يبكي، عادَ إلى بيتِ أمهِ وطرقَ الباب، قالَ: يا أُمي، من يقبلني إن طردتني؟ إلى أينَ أذهب؟ فنظرت إليهِ من خُرمِ الباب فرأتهُ يبكي، فتحت الباب وأخذتهُ وقبّلتهُ، ووضعتهُ في حِجرِها، وقالت: يا قُرّةَ عيني، يا عزيز نفسي، أنتَ حملتني على أن أفعلَ بِكَ ما فعلت، لو أطعتني لم تر منّي ما تكره، هذا ذو النون المصري، صاحَ بأعلى صوتهِ قالَ: وجدتُ قلبي.
أي أخذَ من هذه القِصة عِبرةً عميقةً جداً، أنَّ الله عزّ وجل لا ملجأَ منهُ إلا إليه، إذا أنتَ خِفتَ من إنسان تهرب منهُ إلى شخص آخر، أما إذا خِفت من الله عزّ وجل، لا يوجد إلا الله، لا ملجأَ ولا منجى منكَ إلا إليك، فهذا الطفل أدركَ أين يذهب؟ لا يوجد سِوى أُمهُ، هيَ طردتهُ، طرق الباب، يا أمي من يقبلني إن طردتني؟ أي باب أقرع؟ أنت واحد، ليسَ لنا سِوى الله عزّ وجل، والله أنا أجمل كلمة أقولها: يا رب ليسَ لي إلا أنت، لا يوجد غيرك، كلما وثِقتَ بإنسان تجدهُ خلا بك، إذا وضعت ثِقَتُكَ بإنسان، والله هذا الشيء فوق طاقتي يا أخي، ليس بيدي هذا، لا تؤاخذني، طبعاً بنعومة ينسحب، لكن انسحب، كان خلبياً، أما إذا كان الإنسان وضع ثِقتهُ بالله عزّ وجل، يا رب ليسَ لي إلا أنت، فلذلك السمع طريق، اسمع، احضر مجالِسَ العِلم، لا تزهد فيها، هذه موائد الرحمن، وحينما تحضُرُ مجلِسَ العِلم تدفعُ زكاةَ وقتِك، وحينما تدفعُ زكاةَ وقتِك أنتَ في بيت الله واللهُ في حاجتك، وحاجةِ أهلِكَ وأولادك، هم في مساجِدهم والله في حوائجهم، إذا الإنسان ضنّ بوقتهُ الثمين عن أن يحضر مجلس عِلم، الله عزّ وجل يمكن أن يهدِرَ لهُ أربعة أخماس وقته في موضوعات سخيفة وأشياء تافهة، ممكن، ركّب المُحرّك خِلال ثماني ساعات، نسي قشرة، فكهُ مرةً ثانية، قشرة نسيها كيف لم نضعها، أثناء تركيب الآلات، يكون هناك قطعة مكانها أول حركة ينساها، يُنسيه إياها الله عزّ وجل، يعمل ثماني ساعات، يقول: أنا اليوم لن أذهبَ للدرس، ثماني ساعات أهدرها لهُ، الدرس ساعة، ذهبَ مِنكَ ثماني ساعات، قال لي أخ: مرة لشدة ضغط الأهل عليّ، تركنّا درس الجمعة، أخ يحضر معنا، إنسان كريم جداً، وصل إلى بقين لكي يملأ الماء، شاهدَ شاباً ناعماً، قالَ لهُ: أعطني عم لكي أملؤهُ لكَ، ملأه له، ضاعت محفظتهُ، قالَ لي: فيها الهوية، وفيها ميكانيك السيارة، وفيها إجازة السوق، عملت ثمانية أشهر حتى حصّلتها، فإذا شخص لهُ ترتيب، لهُ مجالس عِلم لا يُغيّر أبداً، هذا وقت الله عزّ وجل، هذه مائدةُ الرحمن، إذاً السماع. 

2-عن طريق البصر:

الآن، البصر، شاهدت كأس الماء، شاهدت ابنك الصغير، شاهدت الكواكب بالليل، القمر، الشمس، الليل، النهار، الرياح، الأمطار، الكواكب، الثِمار، الأزهار، الأطيار، الأسماك، إذا الإنسان مرَّ على الآيات مرور الِلئام، لا نقول: مرور الكِرام، يكون غافلاً، فالسمع طريق، والبصر طريق. 

3 -عن طريق الفكر:

 التفكر طريق، الآيات: 

﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)﴾

[ سورة الحج ]

﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)﴾

[ سورة محمد ]

الفكر، قال تعالى: 

﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)﴾

[ سورة يونس ]

﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)﴾

[ سورة الروم ]

﴿ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)﴾

[ سورة النحل ]

إذاً طريق الوجد، السماع، والرؤية، والتفكّر، أفعالُ اللهِ تراها بعينك، وكتابهُ تتدبرهُ بِفِكرِك، والحقُّ تسمعهُ بأُذُنِك، اسمع الحق بأُذُنِك، وانظر للآيات بعينك، وتدبّر كتاب الله بِفِكرِك، لا تعرف من طريق التدبر، أو من طريق التفكر، أو من طريق النظر، أو من طريق السماع، تنقدح في نفسِكَ محبةُ الله عزّ وجل، وإذا انقدحت في نفسِكَ محبةُ الله وصلتَ إلى كُلِّ شيء، لكن العُلماء تساءلوا هنا هذا الوجد الذي يتأتى من سماع تفسير آية، من سماع حديث قُدسي،  مرة سمعت حديثاً: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، الإنسان ينقدح أحياناً عِندهُ هِمة عالية من وراء حديث واحد، أي يا ربي ماذا فقدَ من وجدكَ؟ وماذا وجدَ من فقدكَ؟ تُهِز مشاعِركَ هذه الكلمات.
العلماء قالوا: هذه المشاعر المُسعِدة التي تلي سماع حقيقة، أو نظر إلى آية، أو تدبّر القرآن، إمّا أن تستمر وإمّا أن تنتهي، فالسعيد دائماً أنت لك مستوى، سمعت تفسير آية، لكن تفسيراً رائعاً جداً تأثرّت، صار معك كما يقولون: صدمة، صدمة عاطفية، هكذا الله عزّ وجل بهذا الكرم؟! هكذا خلقني حتى يُكرمني؟! خلقني حتى يُسعدني؟ 
 

توبة فتاة:


قُلتُ لكم مرة، مُدرّسة أُلزِمت أن تُدرّس الفقه والتفسير، هيَ تُعطي الرياضيات، هي مُعارة إلى دولة، أُلزِمت أن تُدرّس هذه المادة، هيَ عادية كغيرها من الفتيات، فتحت كتاب التفسير، أول درس آيات الحِجاب قرأتها، هذه الآيات أحدثت فيها صدمة، صارت تبكي أمام الطالِبات، قالت: معذِرةً اقرؤوا ما شِئتم، دعوني مع نفسي هذه الساعة، وكانت توبتُها عن طريقِ تِلاوةِ آياتِ الحِجاب، أنت مرة تقرأ صفحة قرآن، تقرأ مقالة عن الله عزّ وجل، عن عظمة الله، تسمع درس عِلم، تُفكّر بقضية، تُخاطب نفسك، منافذ الوجد السمع والنظر والتفكّر، وقد تأتي النتائج مستمرة أو آنية، أي أنتَ بهذا المستوى، حضرت مجلس عِلم ارتقيت، البطولة ارتقيت ثمَّ ستُتابع هكذا؟ لمّا ارتقيت عُدت إلى مكان ما كُنت وأكملت؟ هُنا المُشكلة.
بالحج صار سروراً كثيراً، بعد الحج عُدتَ إلى ما كُنتَ عليه خسرتَ هذا التأثير، جاءَ رمضان حصل تأثير بالغ، بعدَ رمضان فقدتَ التأثير، عُدتَ إلى ما كُنتَ عليه.
 

بطولة من ارتقى درجة أن يحافظ عليها:


البطولة إذا الإنسان ارتقى درجة؛ إمّا عن طريق السماع، أو عن طريق النظر، أو عن طريق التفكّر، يُحافظ عليها، فالمؤمن حياتهُ هكذا، ارتقى أكمل، ارتقى أكمل، ارتقى أكمل، في صعود مستمر، أمّا المُقصّرِون يرتقي برمضان، وبعد رمضان يعود كما كان، يحج ويعود بعد ذلك، دائماً بين نزول وصعود، أمّا المؤمن الصادق صاعد باستمرار، كُلّما حصّل مكسباً يُتابِعهُ، أمّا غير المؤمن أو إيمانهُ ضعيف، كُلما حصّل مكسباً بشيء من التسيُّب، شيء من أخذ حظ النفس تجدهُ فقدهُ، عادَ إلى ما كانَ عليه. 
هذه المرتبة مرتبة الوجود تنتصرُ بِها على بشريتك، أنتَ بشر تُحبُّ أن تأكل وتشرب، تُحِبُّ النساء، تُحِبُّ العلّوَ في الأرض، هذه كُلُّها شهوات أودعها الله في الإنسان، ما دام الإنسان لم يبلغ مرتبة الوجد بشريتهُ منتصرةٌ عليه، عبدٌ لشهوتهِ،

(( عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تعِس عبدُ الدينارِ، تعِس عبدُ الدرهمِ، تعس عبدُ الخميصةِ، تعس عبدُ الخميلةِ، تعِس وانتكَس وإذا شيكَ فلا انتقشَ. ))

[ صحيح البخاري ]

تعس عبد الدرهم والدينار والخميصة والفرج والبطن، أنتَ عبدٌ لشهواتِك، شهواتُكَ منتصرةٌ عليك، شهواتُكَ مُتحكِّمةٌ فيك، شهواتِكَ تقودُكَ إلى حيثُ تُريدُ هيَ، أنتَ تابع لها، أمّا إذا وصلتَ مرتبة الوجد انتصرتَ على بشريتك، أصبحت هذه الشهوات في خِدمتك، مُسخّرةً لك، أي نهاية المطاف أن ينتصرَ الإنسانُ على بشريته، وأن يتحررَ من عبوديتهِ لِذاته، وأن يُصبِحَ عبداً لِربه، وإذا أصبحَ عبداً لله فقد بلغَ أعلى مرتبة في الأرض: 

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾

[ سورة الذاريات ]

لم يعد هُناك أهواء، لا يوجد مصالح، لا يوجد شهوات، لا يوجد حظوظ نفس، يفعل ما يُرضي الله لا ما يُرضي نفسهُ،

(( عن عائشة رضي الله عنها... هل أتَى عليكَ يومٌ كانَ أشدَّ مِن يومِ أحدٍ؟ فقالَ: لقد لقيتُ مِن قومِكِ ، وَكانَ أشدَّ ما لقيتُ منهُم يومَ العقبةِ إذ عرضتُ نفسي على ابنِ عبدِ ياليلَ بنِ عبدِ كلال، فلَم يجبْني إلى ما أردتُ ، فانطلقتُ وأَنا مَهْمومٌ علَى وجهي، فلَم أستفِقْ إلَّا وأَنا بقرنِ الثَّعالبِ، فرفعتُ رأسي، فإذا بسحابةٍ قد أظلَّتني، فنظرتُ فإذا فيها جبريلُ عليهِ السَّلامُ ، فَناداني فقالَ: يا محمَّدُ ، إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ، قد سمِعَ قولَ قومِكَ لَكَ، وما ردُّوا عليكَ، وقد بعثَ اللَّهُ ملَكَ الجبالِ لتأمرَهُ بما شئتَ فيهِم قالَ: فَناداني ملَكُ الجبالِ : فسلَّمَ عليَّ ، ثمَّ قالَ: يا محمَّدُ: إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قد سمِعَ قولَ قومِكَ لَكَ، وأَنا ملَكُ الجبالِ، وقد بعثَني ربُّكَ إليكَ لتأمرَني أمرَكَ، وبما شئتَ، إن شئتَ أن أُطْبِقَ عليهِمُ الأخشبَينِ فعلتُ، فقالَ لَهُ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: بل أرجو أن يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصلابِهِم مَن يعبدُ اللَّهَ، لا يشرِكُ بِهِ شيئًا. ))

[  ابن خزيمة المصدر: التوحيد لابن خزيمة: خلاصة حكم المحدث: أشار في المقدمة أنه صح وثبت بالإسناد الثابت الصحيح ]

هذه الأنوار تجعل الإنسان إذا التقى معك يذوب محبة لله ولرسولهِ، تجعل الإنسان ينسى حظوظ نفسهِ إذا التقى مع مؤمن، فنحنُ نريدُ من هذه المرتبة أن ينتصرَ الإنسانُ على شهواتهِ، والعلماء قالوا: الناسُ في هذا المقام ثلاثة: عبدُ محضٌ، وحرٌّ محضٌ، وبينَ بين.
البعيد عن الله عبد محض، عبد لشهواته، تفكيرهِ في خِدمة شهواتهِ، إذا قالَ لكَ شخص: انصحني، تُفكّر، خُذ هذه، تنصحهُ ببضاعة كاسدة عِندك، لا يمكن أن تتحرك دون نقود، أبداً، فحص دفع، عاد في اليوم الثاني ليسأل، ادفع مرة ثانية، غير ممكن أن يُقدّم خِدمة أو نصيحة أو مشورة أو معاونة إلا بِربح، ماذا سأحصّل أنا؟ هذا الزبون ماذا سأقبض أنا؟ لا يقبل، فهذا عبد محض، وهناك إنسان تحرر كُليّاً من شهواتهُ، صارَ حُرّاً محضاً، وهناك إنسان طريق الإيمانَ بينَ بين؛ مرة يغلب نفسهُ ومرة تغلِبهُ.
 

الحرُّ من فازَ بعبودية ربِّ العالمين:


الحرُّ من تخلّصَ من رفقِ الماء والطين، وفازَ بعبودية ربِّ العالمين، فاجتمعت لهُ العبودية والحريّة، فعبوديتهُ من كمالِ حريتهِ، وحريتهُ من كمالِ عبوديتهِ، ويظلُّ أبداً في ارتقاء، كُلما نظرَ إلى مواقع لُطفِ اللهِ بهِ حيثُ أهّلهُ لِما لم يؤهّل لهُ أهلَ البلاء، من هم أهلُ البلاء؟ إذا شخص سألكَ، من هم أهلُ البلاء؟ يا أخي الحياة كُلها بلاء، كلها مصائب، كلها هموم، هناك فقر، هناك قهر، هناك مرض، هناك ذُل، هناك سجون، هل تعرِفون من هم أهلُ البلاء؟ واللهِ أصحاء، الغافلون عن الله عزّ وجل، قالوا: أهل البلاء هم أهلَ الغفلةِ والإعراض، مثل الحصان جسمهُ، تحليل ممتاز، تخطيط ممتاز، حركات أعضائهُ كُلها ممتازة، دخلهُ كبير، مكانتهُ قوية، مركزهُ كبير، لكن في غفلةٍ عن الله، هذا هوَ من أهلِ البلاء، أهل البلاء هم أهلَ الغفلةِ والإعراض. 
أرجو الله سبحانهُ وتعالى أن يجعلنا من هؤلاء الذينَ أحبوا اللهَ، وذاقوا حلاوةَ الإيمان، لكن دونَ هذه المرتبة جهدٌ كبير، دونَ هذه المرتبة صبرٌ طويل، دونَ هذه المرتبة جِهادٌ مرير، قال تعالى: 

﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)﴾

[  سورة العنكبوت  ]


الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور